نورنيوز - في مراسم الذكرى السادسة والثلاثين لرحيل الإمام الخميني (رض) صباح الأربعاء ألقى قائد الثورة الاسلامية خطابا بالغ الأهمية، اعتبر فيه الاستقلال ركيزةً من ركائز العقلانية الثورية، مؤكدًا على الحق النووي لإيران، ودافع عن الدبلوماسية النزيهة، وشدد على التفاعل في إطار حقوق الشعوب، ومواجهة الهيمنة.
بالنظر إلى أن الاستقلال في فكر الإمام الخميني (رض) لم يكن مجرد مفهوم سياسي، بل كان منصةً لهوية جديدة للأمم المتحررة من قرون من الهيمنة، يُمكننا أن نعطي صورةً أدقّ مقارنةً بتصريحات القيادة في مواصلة السعي وراء مُثُل مؤسس الثورة الإسلامية.
لقد اعتبر الاستقلال "خروجًا من فلك الهيمنة"؛ لا عزلةً دولية. هذا الخطاب امتدادٌ طبيعيٌّ لنضالات الأمم ضد الاستعمار، ونفيٌّ لنظامٍ يسعى، تحت ستار المنظمات الدولية، إلى إعادة إنتاج اللامساواة وتبعية الدول المستقلة للقوى المهيمنة. واستنادًا إلى هذا الأساس، استذكر قادة الثورة أن عقلانية الإمام تبلورت في "ولاية الفقيه" و"الاستقلال الوطني"؛ عقلانيةٌ تقبل التفاعل ولا تقبل الهيمنة أبدًا.
كما أن تصريحات قائد الثورة الاسلامية عشية المستجدات الجديدة في المفاوضات النووية وتقديم الخطة الأمريكية المكتوبة عبر عُمان إلى إيران، والتي أثارت موجة من التكهنات والتحليلات في وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، تُعتبر أيضًا بمثابة مؤشر على المبادئ الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في هذه القضية الصعبة.
ورغم أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لم تُؤكد أو تنفِ رسميًا أي تفاصيل عن هذه الخطة، إلا أن تصريحات قائد الثورة الواضحة في 14 يونيو/حزيران تُعتبر بلا شك رسالة واضحة للجانب الأمريكي بشأن إطار الخطوط الحمراء الإيرانية المتعلقة بالخطة المطروحة.
ومن خلال التركيز على المفهومين الأساسيين "الاستقلال" و"الحق المشروع في التخصيب"، أثبت قائد الثورة الاسلامية مرة أخرى أن الجمهورية الإسلامية ليست منفتحة على التفاعل فحسب، بل تسعى أيضًا إلى المفاوضات من منطلق السلطة والقانون والكرامة. وفي الخطة التي تناولتها وسائل الإعلام الأمريكية، فإن أحد المحاور الرئيسية هو مسألة التخصيب على الأراضي الإيرانية؛ وهي قضية تتوافق مباشرةً مع المواقف العلنية لدونالد ترامب. فقد صرّح ترامب بوضوح بأنه لا ينبغي لإيران إجراء أي تخصيب. مع أن هذا النهج قد يبدو في ظاهره مطلبًا سياسيًا، إلا أنه في الواقع محاولة لفرض حرمان قانوني على مسار يحق لإيران الاستفادة منه وفقًا للقوانين الدولية النافذة. إن تصريحات قائد الثورة في هذا الصدد أشبه بفك شيفرة مضمون هذه الخطة؛ عندما قال: "أنتم تملكون القنبلة الذرية، فما الذي يهمكم سواء قامت الأمة الإيرانية بالتخصيب أم لا؟"
*الحق في التخصيب: أبعد من مجرد قضية سياسية
في شرحه للوضع القانوني لحق التخصيب، لم يكن خطاب قائد الثورة موقفًا سياسيًا فحسب، بل كان أيضًا إعادة تفسير واضحة وموثقة لمبادئ القانون الدولي. ووفقًا للمادة الرابعة من معاهدة حظر الانتشار النووي، يحق للدول الأعضاء الاستفادة من التكنولوجيا النووية السلمية. وإيران، بصفتها عضوًا فاعلًا وملتزمًا بهذه المعاهدة، تخضع منذ سنوات لإشراف مكثف من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد وفرت مستوى غير مسبوق من الشفافية، يتجاوز حتى متطلبات البروتوكول الإضافي. من هذا المنظور، لا تُخالف خطة الولايات المتحدة لوقف التخصيب القانون الدولي فحسب، بل تُمثل أيضًا شكلاً من أشكال التمييز الهيكلي ضد دولة مستقلة.
من ناحية أخرى، يُشير ميثاق الأمم المتحدة، في المادة الأولى، الفقرة الثانية، إلى حق الدول في تحديد مصيرها العلمي والاقتصادي والاجتماعي. ويُعدّ تقييد البرامج العلمية والتكنولوجية الإيرانية انتهاكًا مباشرًا لهذا المبدأ الأساسي. لذلك، وباستشهادها بهذه الوثائق، تدخل جمهورية إيران الإسلامية في نقاشات مع الجانب الغربي ليس فقط من منطلق المواجهة، بل أيضًا من منطلق الدفاع القانوني.
*الصناعة النووية: مثال على المقاومة التكنولوجية
في المنظومة الفكرية لقائد الثورة، ليست التكنولوجيا النووية مجرد أداة تكنولوجية؛ بل هي تجسيد لاستراتيجية شاملة لمقاومة الهيمنة الدولية. وهم لا يُصوّرون هذه المقاومة بمعنى المواجهة فحسب، بل كبلورة للعقلانية في إطار الاستقلال الوطني. ولذلك، عندما يتحدثون عن الصناعة النووية، فإنهم يُعرّفونها من حيث صلتها بالأمن الغذائي، وعلاج أمراض مُحددة، وتطوير الطاقة النظيفة، والنمو العلمي للمجتمع. ترتبط
هذه الرؤية الاستراتيجية بمفهوم يُسمى "الحق في التنمية". ويُعتبر هذا الحق من حقوق الإنسان الأساسية التي أقرتها الأمم المتحدة، ويعني قدرة الدول على استغلال مواردها في سبيل التقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي. أما الضغط على إيران للتخلي عن التكنولوجيا النووية، فهو في الواقع محاولة لتحييد هذا المسار التنموي نفسه، وهو شكل من أشكال "الحرمان التكنولوجي".
*السيادة الوطنية والردع؛ الخطوط الحمراء للنظام
في جزء آخر من خطابه، أكد قائد الثورة الإسلامية بشدة أن الصناعة النووية من "مجالات عدم التدخل" في الهيكل السيادي لإيران. هذا الموقف، بالإضافة إلى أبعاده القانونية، يحمل رسالة استراتيجية. فقوله: "لا ذنب لهم"، ليس مجرد شعار؛ بل هو مبني على شبكة من الردع الداخلي، أي الاعتماد على القدرات المحلية، والدعم الشعبي، والقدرة الدفاعية.
كما تؤكد الفقرة 7 من المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ومن هذا المنظور، فإن أي محاولة لفرض مطالب سياسية خارج الإطار القانوني تُعدّ انتهاكًا واضحًا لهذا المبدأ. الولايات المتحدة وحلفاؤها، وهم من أكبر حائزي الترسانات النووية في العالم، لا يملكون أي شرعية لحظر التكنولوجيا النووية السلمية؛ خاصةً عندما تكون هذه التكنولوجيا مصحوبة بالشفافية والتعاون مع المؤسسات الدولية.
*دبلوماسية قائمة على الكرامة؛ المشاركة، لا الاستسلام
وفي الوقت نفسه، أظهرت تصريحات قائد الثورة أن إيران لا تزال تُبقي على مسار الدبلوماسية مفتوحًا. لكن هذه الدبلوماسية لا تُمارس من منطلق الضعف، بل على أساس السلطة والمنطق والقانون. "الدبلوماسية الكريمة" هي الكلمة المفتاحية التي شُدّد عليها في خطابه؛ دبلوماسية مصممة على أساس حقوق الشعوب والكرامة الوطنية والاستقلال والمصالح الاستراتيجية، ولا يمكن التفاوض عليها بأي نوع من الضغط أو التهديد أو الإذلال.
وفي هذا السياق، لم يُعلن بعد عن رد إيران على الاقتراح الأمريكي، لكن مواقف القيادة حددت معايير واضحة ودقيقة لأي مشاركة أو اتفاق. ويشمل هذا الإطار: احترام الحقوق المعترف بها دوليًا، والحفاظ الكامل على حق التخصيب، وتجنب أي قيود تمييزية.
*فك رموز مواقف قائد الثورة؛ مواصلةً لنهج الإمام الخميني (رض)
لم تكن كلمات قائد الثورة في ذكرى رحيل الإمام الخميني (رض) مجرد موقف من القضية النووية الإيرانية، بل كانت إعادة تفسير استراتيجية للأسس الفكرية للثورة الإسلامية. مؤكدًا أن "الاستقلال ركيزة العقلانية الثورية"، بيّن أن مفهوم الاستقلال في الجمهورية الإسلامية لا يعني الانعزال، بل هو خروج عن مدار الهيمنة. وترتبط هذه الرؤية ارتباطًا مباشرًا بفكر الإمام الخميني، الذي اعتبر الاستقلال ركيزة هوية الشعوب الحرة.
واليوم، في مواجهة القوى التي تسعى لإعادة إنتاج الهيمنة عبر الدبلوماسية القسرية، يُكرر قائد الثورة الخطاب نفسه: نعم للتفاعل، لا للخضوع للهيمنة. وبهذا النهج، لن تُرفض أي خطة تحرم إيران من حقوقها المشروعة فحسب، بل ستكون أيضًا بلا جدوى، حتى في إطار مفاوضات تبدو تعاونية.
نورنيوز