نورنيوز: يُعتبر إعلان دول مثل بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال الاعتراف بفلسطين، وحتى الوعود المتكررة من باريس، للوهلة الأولى خطوة إيجابية. قد يؤدي هذا الإجراء إلى مزيد من عزلة النظام الصهيوني أمام الرأي العام العالمي، ويخلق ضغطًا سياسيًا إضافيًا على تل أبيب. ومع ذلك، يُظهر التدقيق أن لهذه القرارات وظيفة رمزية أكثر من كونها مؤشرًا على تغيير حقيقي في السياسات الغربية، لأن الحكومات نفسها التي تعترف بفلسطين لا تزال الداعم الرئيسي لآلة الحرب الإسرائيلية، وتتجاهل سياسات تل أبيب الاحتلالية.
في الواقع، الدول الغربية مهتمة بإدارة الضغوط الاجتماعية داخلها أكثر من اهتمامها بالعدالة وحقوق الشعب الفلسطيني. أجبرت الاحتجاجات الشعبية الواسعة في العواصم الأوروبية ضد الحرب على غزة وقتل المدنيين الحكومات على اتخاذ إجراءات استعراضية لاحتواء الغضب الشعبي. ومن هذا المنظور، يُعدّ الاعتراف الرسمي بفلسطين أداة تكتيكية في السياسة الداخلية الغربية أكثر منه استجابة حقيقية لمطالب الشعب الفلسطيني.
تناقض واضح: من بيع الأسلحة إلى نزع السلاح
من أهم النقاط في هذه العملية التناقض الواضح في المواقف الغربية. فبينما تتحدث لندن وباريس عن قيام دولة فلسطينية، تؤكدان على ضرورة نزع سلاح المقاومة. تصف بريطانيا حماس بشدة بأنها "منظمة إرهابية"، ويعلن رئيس وزرائها أنه لا مستقبل لهذه الحركة. كما تعتبر فرنسا إبعاد حماس عن الهيكل السياسي شرطًا للاعتراف الرسمي العملي بفلسطين.
تُطرح هذه المواقف في حين أن هذه الدول نفسها من بين الموردين الرئيسيين للأسلحة الإسرائيلية. إن التناقض بين دعم المحتلين بالسلاح والتأكيد على نزع سلاح الضحايا يُظهر بوضوح أن الغرب ليس محايدًا فحسب، بل يقف في الواقع إلى جانب النظام الصهيوني. هذه السياسة لن تُفضي إلى السلام أو إلى قيام دولة مستقلة للفلسطينيين؛ بل ستؤدي فقط إلى استمرار دائرة العنف وتفاقم المعاناة الإنسانية في غزة والضفة الغربية.
أهداف خفية وراء الكواليس
تشير الأدلة إلى أن الاعتراف الرسمي بفلسطين هو أداة سياسية للغرب أكثر منه إجراءً مبدئيًا. إن شروطًا مثل إطلاق سراح الرهائن، ونشر قوات دولية في غزة، أو تعليق العلاقات الرسمية حتى تلبية مطالب إسرائيل، كلها تشير إلى أن الغرب ينوي استخدام هذه القضية كأداة للضغط على المقاومة.
في الواقع، دفعت الهزيمة العسكرية لإسرائيل في غزة وعجز النظام عن تحقيق أهدافه المعلنة الغرب إلى السعي لتعويض هذا الفشل بالوسائل السياسية. إنهم يحاولون تهميش المقاومة الفلسطينية من خلال الهندسة الدبلوماسية وإعادة بناء موقع إسرائيل في المعادلات الإقليمية. هذا النهج يعني عمليًا تحويل ساحة المعركة من العسكرية إلى السياسية، دون أي تغيير في منطق الغرب المهيمن والتمييزي.
من المبادرة الدبلوماسية إلى الواقع الميداني
ثمة نقطة لا ينبغي إغفالها في هذا الصدد، ألا وهي دور المقاومة في تغيير المشهد. فإذا ما اضطرت بعض الحكومات الغربية اليوم إلى قبول فلسطين، فذلك نتيجة مقاومة شعب غزة والتكاليف الباهظة التي تكبدها النظام الصهيوني جراء المقاومة. لولا المقاومة، لما طُرحت مثل هذه التغييرات حتى على المستوى الدبلوماسي.
وقد أثبتت التجارب السابقة أن الاعتماد على التسويات والاتفاقيات أحادية الجانب لا يؤدي إلا إلى مزيد من جرأة إسرائيل على مواصلة بناء المستوطنات واحتلال الأراضي الفلسطينية. إن ما يرتقي بالاعتراف من المستوى الرمزي إلى مستوى حقيقي هو مزيج من عاملين: أولاً، استمرار المقاومة وردعها؛ وثانياً، الاستخدام الذكي للآليات القانونية والدولية المستقلة لإجبار الغرب على اتخاذ إجراءات عملية. وفي هذا الإطار فقط، يمكننا أن نأمل في جعل الاعتراف بفلسطين حقيقة دائمة، وليس مجرد مبادرة سياسية عابرة.